تطرّف إسرائيل- كيف قادت المزايدة التوراتية إلى الفاشية؟

المؤلف: د. مروان الغفوري08.28.2025
تطرّف إسرائيل- كيف قادت المزايدة التوراتية إلى الفاشية؟

لم يعد أمام حلفاء إسرائيل فسحة للمناورة أو هامش كافٍ للتلاعب بالألفاظ، فالوضع بات جليًا.

إنها دولة تخضع للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية، وقائدها مُلاحق من قِبل المحكمة الجنائية الدولية، بينما تنقل كاميرات العالم على مدار الساعة أحداثًا تعتبر الأكثر همجية ووحشية منذ أهوال الحرب العالمية الثانية.

وزراء الحكومة الإسرائيلية، وبصورة قاطعة لا لبس فيها، يعلنون عن تصميمهم الراسخ على تطهير قطاع غزة من سكانه، في عملية تطهير عرقي ترقى إلى ما هو مدوّن في الكتب الدراسية. حتى أولئك الذين يتمتعون بقدر من التعقل قد يجدون أنفسهم مرغمين على مغادرة ديارهم والهجرة إلى أماكن بعيدة مثل أمريكا وأستراليا، كما يرى توماس فريدمان في مقالاته في صحيفة نيويورك تايمز.

في مستهل هذا الشهر، كشفت مؤسسة YouGov عن نتائج استطلاع رأي أجرته في ست دول من غرب القارة الأوروبية، وتناول الاستطلاع المواقف تجاه إسرائيل. وأظهرت النتائج أن نسبة من يحملون نظرة إيجابية تجاه إسرائيل تراوحت بين 13% و21%. ووفقًا لـ YouGov، فإن مستوى التعاطف مع إسرائيل في غرب أوروبا هو الأدنى على الإطلاق. ففي إيطاليا، على سبيل المثال، قال 6% فقط من المستطلعة آراؤهم أن إسرائيل كانت على حق في إرسال قواتها إلى غزة. وكانت فرنسا هي الدولة التي سجلت أعلى نسبة تأييد للاجتياح، ولكنها لم تتجاوز 16%، وفقًا لنتائج الاستطلاع.

تعتمد إسرائيل في بقائها على الدعاية والإعلام الموجه، أو ما يُعرف بالعبرية بـ "الهاسبارا". لقد أحاطت نفسها بسياج دفاعي مُحكم يتألف من طبقات متراكمة: الهولوكوست، المذابح، معاداة السامية، وضع الأقلية، الكتاب المقدس، والتاريخ اليهودي-المسيحي المشترك. ولكن يبدو أن سلاح "معاداة السامية"، الذي يُعد خط الدفاع الأول، بدأ يفقد فعاليته بسبب الإفراط في استخدامه.

في الأيام القليلة الماضية، نشرت الأكاديمية الإسرائيلية-اليهودية أورنا بن ديفيد مقالًا ذكرت فيه أن جامعة هارفارد قد أدرجت أعمالها في تقرير حول الأنشطة المعرفية التي تنطوي على معاداة للسامية.

في الشهر الأخير من عام 2023، نشرت مجلة The Harvard Crimson ملفًا خاصًا تحت عنوان "معاداة السامية في هارفارد كما يراها سبعة من المنتسبين اليهود". وشارك المعلم بيرني شتاينبيرغ في كتابة مقال بعنوان "لأجل سلامة اليهود والفلسطينيين، توقفوا عن عسكرة معاداة السامية".

لقي المقال صدى واسعًا، وتضمن العبارات التالية: "خلال مسيرتي الطويلة كمعلم وقائد يهودي، والتي شملت ثلاثة عشر عامًا قضيتها في القدس، شهدت وعشت صراعات مجتمعي. والآن، بصفتي قائدًا مخضرمًا، وبعد أن منحني الزمن نظرة أكثر تبصرًا، أشعر بأنني ملزم بالتحدث عن اتجاه مقلق يهيمن على حرمنا الجامعي، وعلى العديد من الأماكن الأخرى، ألا وهو: الاستغلال الانتهازي لمعاداة السامية كسلاح من قبل قوى نافذة تهدف إلى ترهيب المنتقدين وإسكات النقد المشروع لإسرائيل ولسياسة الولايات المتحدة تجاهها".

إن التلويح بعصا "معاداة السامية" يفقد مصداقيته الأخلاقية، وحتى قيمته السياسية. وقد تنبه لهذه المعضلة جمعٌ من الباحثين الإسرائيليين، بلغ عددهم 370 باحثًا، يمثلون حقول المعرفة الثلاثة: دراسات الهولوكوست، الدراسات اليهودية، ودراسات الشرق الأوسط.

قبل ثلاثة أعوام، أصدر هؤلاء الباحثون تعريفًا جديدًا لمعاداة السامية أُطلق عليه "إعلان القدس"، بهدف منع استخدام مصطلح "معاداة السامية" بشكل يتعارض مع حرية التعبير. وقد قام الباحثون بتمييز واضح ومستفيض بين معاداة اليهودية، كدين وعرق، وبين نقد الدولة الإسرائيلية وحتى الصهيونية.

أما التعريف الذي أصدره التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة في عام 2016، والذي اعتمده الاتحاد الأوروبي كتعريف "عملي إجرائي"، فيجعل اليهودية والصهيونية والدولة الإسرائيلية كيانًا واحدًا لا يتجزأ. لقد زعزعت أحداث غزة هذا التصور، وأجرت تغييرات جوهرية في المفاهيم التي كانت تفصل بين هذه المسائل الثلاث. بل أدت إلى نشوب حرب ثقافية مدمرة، تتجلى آثارها في العالم الغربي من برلين إلى واشنطن.

في عام 2016، أقرت الدول الأوروبية تعريفًا موسعًا لمعاداة السامية يتألف من 46 صفحة، وشمل جوانب عديدة، حتى أن القول بأن اليهود يتمتعون بنفوذ مالي أو إعلامي يُعتبر معاداة للسامية.

أضافت ألمانيا إلى هذا التعريف الموسع مادة خاصة بها، تنص على أن انتقاد إسرائيل، باعتبارها المشروع اليهودي الأكبر، يُعد من قبيل معاداة السامية. ولكن يبدو الآن أن هذه العصا العشوائية قد سقطت بسبب سوء استخدامها، وعلى ضوء الجرائم التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة. يشهد الخطاب الغربي تحولًا متسارعًا، من الإشادة بإسرائيل الديمقراطية –التي لا يمكنها إلا أن تفعل أمورًا مشروعة، كما قال مستشار ألمانيا السابق– إلى الحديث عن القيم الغربية الديمقراطية التي ترفض التجويع والتصفيات العرقية.

أبدت ألمانيا الرسمية تململًا أخيرًا، وبدأت بعض قنوات التحليل في برلين في التحرك على استحياء. وتحدث تحولات مماثلة في الأجواء البريطانية والفرنسية. وجدت الليبرالية الغربية مخرجًا من المأزق الأخلاقي من خلال الحديث عن "حكومة متطرفة في تل أبيب"، بدلًا من انتقاد إسرائيل بشكل مباشر.

ولكن حتى هذه الجملة لا تزال غير مكتملة، إذ يدور أغلب الحديث حول بعض الوزراء المتطرفين، ويُلقى باللوم على وزيرين متطرفين، أحدهما من أصول كردية، والآخر من أصول أوكرانية.

وقد عوقب هذان الوزيران مؤخرًا من قبل بعض الدول الغربية. تحاول الديمقراطية الليبرالية، من خلال هذا التمويه والتشتيت الأخلاقي، أن تحافظ على نقائها، أو أن تقفز من السفينة الغارقة، على حد تعبير نورمان فينكلشتاين. ولكن مجلة دير شبيغل ترى الأمر بمنظور مختلف، حيث ترى أن الدبلوماسيين الألمان في الجنوب العالمي لم يعودوا يسمعون سوى كلمة واحدة: "النفاق".

تقود إسرائيل حاليًا مجموعة سياسية تنتمي إلى اليمين الفاشي، وهذا ليس كل المشكلة. فالأجواء السياسية الإسرائيلية مشبعة بهذا اليمين، حتى أن 82% من المشاركين في استطلاع حديث أجرته جامعة بنسلفانيا يؤيدون التطهير العرقي لغزة، بينما يرى أكثر من نصف السكان أن إبادة سكان غزة تتوافق مع ما ورد في سفر التثنية من الكتاب المقدس اليهودي.

تدور عجلة التطرف بوتيرة متسارعة، وسوق المزايدة التوراتية مفتوح على مصراعيه، ولا مستقبل لأي سياسي ما لم يشارك في هذه اللعبة المشينة. لم يعد هناك معتدلون في إسرائيل، بل "مجتمع متعفن يندفع بغباء وجنون نحو غياهب النسيان والهلاك"، كما كتبت الكاتبة الإسرائيلية رافيت هيشت في مقالها بجريدة هآرتس في مايو/أيار من العام الماضي. أما اليسار، الذي قاد المجتمع اليهودي إلى حلم الدولة عبر حزب ماباي، فقد باتت أقصى طموحاته الوصول إلى الكنيست ولو بعدد قليل من المرشحين.

عقب انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، هاجر ما يقرب من مليون شخص من المستعمرات السوفيتية إلى إسرائيل. ظن اليسار الإسرائيلي أن هذه الكتلة البشرية ستضخ دماء جديدة في شرايينه المتصلبة، فهم قادمون من الأراضي الشيوعية.

ولكن ما حدث كان عكس ذلك تمامًا. ففي مواجهة تشكيك القوى الحاخامية بيهودية الوافدين الجدد، بالغ هؤلاء في التعبير عن انتمائهم التوراتي وعن ولائهم للدولة اليهودية. الأمر نفسه حدث مع يهود السفارديم، القادمين من الدول العربية وشمال أفريقيا، وإن اختلفت ظروف المزايدة التوراتية.

فالقادمون السُمر، الذين لم تكن اللغة العربية قد سقطت عن ألسنتهم بعد، اصطدموا بجدران العنصرية الأشكنازية البيضاء. فاليهودية البيضاء امتلكت المال والنفوذ ووسائل الإعلام، وكانت تتوقع أن يذهب اليهود العرب إلى حراثة أراضي المستوطنات، وليس إلى الخوض في شؤون السياسة في تل أبيب. ففعل يهود السفارديم ما فعله اليهود الروس، أو ما سيفعله اليهود الروس: المزايدة التوراتية.

وبينما كانت اليهودية البيضاء تحلم على طريقتها، بمزيد من النفوذ والثروة، كان اليهود المستبعدون يفخخون الحياة السياسية ويعدلون في جيناتها.

في ذلك الجو المشحون، في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1994، صعد شاب يهودي من أصول عربية إلى منصة في ساحة الملوك بمدينة تل أبيب، وأطلق النار على إسحاق رابين وأرداه قتيلًا. في تلك الأثناء، كان رابين، الزعيم اليساري، يلقي خطابًا من أجل السلام مع العرب. وقال القاتل أثناء التحقيقات: "فعلت ذلك كي أوقف اتفاق أوسلو. يريد رابين أن يسلم أرض اليهود لأعدائهم، وهذا ضد التوراة".

انفجرت الظاهرة التوراتية تحت سماء إسرائيل، وتأكد المضاربون السياسيون أنها اللعبة الأكثر أمانًا، وأن من يتقنها سيفوز في جميع المعارك. أدرك نتنياهو جوهر بلاده وطبيعتها، وراح يسبح بسهولة في تلك المياه. وبإمكاننا أن نحصي للرجل 18 عامًا في الحكم، متفوقًا بذلك على ديفيد بن غوريون، الأب المؤسس لإسرائيل، الذي لم تتجاوز فترة حكمه 13 عامًا.

من الصعب الإطاحة باليمين المتطرف من حكم إسرائيل في المستقبل المنظور. فوفقًا لدراسة أجراها معهد الديمقراطية الإسرائيلي (IDI) في أغسطس/آب 2022، فإن نسبة اليهود الإسرائيليين الذين يعتبرون أنفسهم يمينيين ارتفعت من 46% قبل انتخابات أبريل/نيسان 2019 إلى 62% في عام 2022، أي قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول بأكثر من سنة.

ثمة ظاهرة أخرى عميقة الأثر في الحياة السياسية الإسرائيلية، وهي تأثير الحريديم. يشكل المتدينون اليهود، الحريديم، حوالي 14% من سكان إسرائيل، وحوالي 20% من المجتمع اليهودي.

وهم منقسمون سياسيًا إلى حزبين: حزب شاس، وهو عبارة عن تكتل راديكالي لليهود السفارديم، وحزب يهدوت هتوراه، الذي يمثل المتطرفين الأشكناز. هذا التشكيل الديني الصغير نسبيًا له تأثير بالغ في الحياة السياسية الإسرائيلية، ويضمن حوالي 18 مقعدًا في الكنيست. يتميز أعضاء هذا التشكيل الديني بالانضباط السياسي، وبكثافة المشاركة في الانتخابات، حيث يصوت أكثر من 80% منهم.

كما أنهم يصوتون ككتلة واحدة وفقًا لتوجيهات الحاخامات. تمتاز النسخة الإسرائيلية من الديمقراطية بما يسمى "صانعي الملوك" King Makers، وهي الجماعات الصغيرة ذات التأثير البالغ، كالحريديم، القادرة في سياقات معقدة على تسمية القائد، ثم الهيمنة على إدارته السياسية.

إن قراءة المشهد السياسي والاجتماعي في إسرائيل تقودنا إلى استنتاج واحد، وهو أن الدولة قد وقعت في قبضة اليمين، وأن اليمين يتجه نحو اليمين أكثر فأكثر، حتى تجاوز الخط الفاصل بين الراديكالية والفاشية. تشير البيانات، وليس الملاحظات فحسب، إلى أن ما نشهده حاليًا ليس مجرد مصادفة تاريخية، بل هو نتيجة طبيعية لتحولات عميقة تشكلت على مدى عقود، كما أشرنا إليها سابقًا.

ومن المثير للقلق أن الأجيال القادمة لا يُتوقع منها أن تسلك بالمسار السياسي طريقًا مختلفًا، بل على العكس من ذلك، فقد التحقت بقطار التطرف اليميني القومي، كما تشير إلى ذلك البيانات. فوفقًا لمؤشر الديمقراطية الإسرائيلي لعام 2022 الصادر عن معهد الديمقراطية الإسرائيلي (IDI)، فإن 73% من اليهود الإسرائيليين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا يُعرّفون أنفسهم بأنهم ينتمون إلى التيار اليميني سياسيًا.

وللبقاء في اللعبة، وربما لركوب الموجة، انتقل جزء من اليسار إلى منطقة تقع بين الوسط واليمين، وهي مساحة رمادية تُعرف بـ "الوسط الأمني".

في هذا "الوسط الأمني"، تحول اليسار من الحديث عن السلام إلى التركيز على الأمن، وهو شكل من أشكال المراهنة السياسية داخل مجتمع اجتاحته الراديكالية، بل دفعته إلى الفاشية. في نهاية المطاف، لم تعد إسرائيل، بفعل كل هذه التشابكات، قادرة على تقديم شريك واحد للسلام. وهي حقيقة مروعة بالنسبة لدولة صغيرة تعيش بين ثلاث أمم كبرى: العرب، والفرس، والترك، وتتبادل معهم العداء والكراهية، وتريد أن تعيش طويلًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة